
في كل حرب، لا تنزف الأرض وحدها، بل تنزف معها القلوب وتزرف الدموع.
جراح الوطن لا ترى كلها بالعين؛ بعضها يسكن في الروح، في البيوت التي كانت مسكونة وصارت خاوية، في الطرقات التي ألفت خطوات الناس ثم صارت مسرحا للرصاص والمسيرات. الحرب لا تسرق العمر فقط، بل تسرق الطمأنينة وراحة البال.
في زمن الصراع، تنكسر النوافذ، لكن الأخطر أن تنكسر الثقة، وتتبدل علاقات الناس من مجاورة ومحبة إلى شك ووسواس.
يتوقف التعليم، تتعطل الأحلام، ويصبح الخوف الضيف الذي لا يغادر. ما أثقل أن يكبر جيل كامل على صوت المدافع بدل صوت الطباشير!
ولا هوادة في هذه الحرب؛ لا تمنح الناس هدنة لالتقاط أنفاسهم، ولا تترك للمدن فرصة لتضميد خرابها.
تمتد كالظل الثقيل فوق الأيام، تدخل البيوت دون استئذان، وتغيّر ملامح الحياة كما تغيّر الريح اتجاه الرمل في الصحراء. لا يعرف النزاعُ قلبا رحيما، ولا يسأل عن شيخ فقد دواءه، أو طالب انقطع كتابه، أو أم تنتظر ابنا لم يعد.
لكن وسط هذا الرماد، يبقى في الروح شيء يشبه الضوء. فالوطن، مهما اشتدت عتمته، يظل فكرة نبيلة تقاوم الظلام الدامس، ويظل الناس – برغم الجراح – يحلمون بسلام يعيد للأنهار هديرها، وللبيوت ضحكتها، وللأيام وجوهها التي افتقدناها.
في مواجهة الجرح، لا يكفي البكاء على أطلال الخراب؛ فوعي الناس هو أول مانع، والمجتمع الواعي يستطيع أن يحمي روحه من السقوط في فخ الكراهية والعصبية.
يبدأ تضميد جراح الوطن من الإنسان؛ من كلمة طيبة تقال في وقت الاحتقان، من مبادرة صغيرة تعيد الحياة لمدرسة مهدمة، من يد تمتد لجار فقد بيته – لا لتسأله في أي صف يقف.
الوعي ليس شعارا، بل ممارسة يومية: أن نفكر قبل أن نكرر شائعة تشعل النار في الهشيم، وأن نبحث عن المشترك بدل المختلف، وأن نحافظ على خيط الإنسانية في كل نقاش، فالمجتمع الذي يتذكر أنه أسرة واحدة – مهما اختلفت ملامحها – يستطيع أن يعيد النبض لبلد تعب من النزيف.
هناك أمثلة كثيرة تثبت أن الإرادة الشعبية قادرة على تضميد الجراح، ولو على نطاق محدود؛ من مبادرات أهلية لإعادة فتح المدارس المتضررة، إلى مجموعات تطوعية تساعد الأسر المشردة، أو حتى جمعيات صغيرة تعيد الحياة للمزارع والحقول المدمرة. هذه الجهود – رغم تواضعها – تمنح الناس شعورا بأنهم ليسوا وحدهم، وأن وطنهم لا يزال ينبض بالحياة رغم الدماء والدمار.
وفي النهاية، تبقى الجراح شاهدة، لكن الأمل أقوى من كل الخراب.
فلنمد أيدينا لبعضنا، ولنزرع كلمات طيبة بين الركام، ولنحافظ على دفء الإنسانية قبل أن نحافظ على البيوت.
فالوطن لا يبنى بالحجارة وحدها، بل بالقلوب التي ترفض الانكسار، وبالأحلام التي تصر على النهوض بعد كل سقوط.
فتكم بعافية
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.